محاولة لفهم مبسط لمسألة الجبر و الأختيار بموجب القرآن الكريم (1/3)
محاولة لفهم مبسط لمسألة الجبر و الأختيار بموجب القرآن الكريم (1/3)
الفهم الكاركتيري الهوليودي السائد في الاوساط الغربية الشعبية عن كون المسلمين كلهم يؤمنوا بجبرية مطلقة , يلخصه لي مشهد محدد في فيلم لورنس العرب . ففي خلال مهمته التجسسية لتقويض النفوذ العثماني في شبه جزيرة العرب , ينطلق الخواجة لورنس- وكان يلعب دوره الممثل البريطاني الايرلندي الاصل بيتر أوتولو , في مهمة تضطره و أتباعه من البدو العرب لعبور صحراء قاحلة .
و أثناء مسيرهيم تفاجئهم عاصفة ترابية . بعد انجلاء العاصفة يكتشفوا ضياع احد الادلاء البدو . يحاول أتباع لورنس من العرب اقناعه بمواصلة المسير وترك البدوي المفقود لمصيره ليموت في الصحراء فذلك قدره وكان مكتوبا عليه ذلك منذ الازل . يرفض الخواجة ذلك و يذهب منفردا في مهمة شاقة للبحث عن المفقود و يجده . و عندما يعود برفقة البدوي الضائع , و يصلا مجهدين لمكان القافلة, يصيح صيحة طرزانية في أؤلائك العرب المسلمين الاجلاف , بلغة أنجليزية فصحي - يشوبها شيئ من اللهجة الايرلندية:" أنظروا لايوجد شيئ أسمه قدر مكتوب "!
قبل بحث الأجابة علي هذا السؤال الوجودي الهام : "هل الآنسان مسير ام مخير في أفعاله ؟" أود أن أوضح هنا بأن المسلمون لم يكونوا بدعا من الأمم في اهتمامهم ببحث أجابة لهذا السؤال المعضل , فنفس السؤال شغل فقهاء ديانات أقدم من أتباع الرسول محمد عليه أفضل الصلاة والسلام . بل أن نفس السؤال طرحه قديما الفيلسوف الاغريقي أرسطو فيما عُرِفَ ب "معضلة/مسألة المعركة البحرية " و يمكن تلخيص المعضلة في التالي:
حسب علم المنطق ف اي عبارة أما أن تكون صحيحة او خطأ , ويقول أرسطو لنفترض أننا قلنا اليوم عبارة " لن تحصل معركة بحرية في الغد " واتي يوم الغد و انقضي ولم تقع اي معركة بحرية فمعني ذلك أن عبارتنا بالأمس كانت صحيحة و قبل اسبوع كانت العبارة صحيحة , بل أن العبارة أعلاه صحيحة منذ الازل , فهل معني ذلك , بموجب علم المنطق , أن المستقبل (عدم حدوث معركة بحرية في ذلك اليوم) كان محددا منذ الازل و أن فعل الانسان لم يكن ليغير شيئا ؟
في نظرتهم للجبر و الاختيار انقسم قدماء اليهود , في القرن الأول قبل الميلاد, الي ثلاثة مذاهب:الصدوقيين Sadducees, والفريسيين Pharisees والاسينيين Essenes .
بحسب دائرة المعارف اليهودية , فقد آمن الاسينيين بجبرية مطلقة , وقالوا بان كل شيئ يفعله الانسان يفعله حسب المشيئة الالهية فقط و بذلك نفوا أي دور للأنسان في صنع أفعاله . كان رأي الصدوقيين أن الانسان مخير في أفعاله ونفوا تدخل العناية الالهية في أختيار الانسان لأفعاله أو تدخلها في أي شيئ يحدث له . و قالوا بأن مايحدث للأنسان تحدده طريقة اختياره لأفعاله و الصدفة المحضة, فالخالق حسب أعتقادهم لايتدخل في شئوون البشر
كان معتقد الفريسيين هو أن الانسان مسير في شئون حياته المادية و مخير في شئونه الروحية. وقال فقيههم حنينا في ذلك: "كل شيئ يحصل بمشيئة الرب الا الخوف منه " , أي أن الانسان مخير في خوفه من الرب و مسير فيما عدا ذلك.
في سنين تالية وفي محاولة للأجابة علي علي سؤال "لماذا يسمح رب رحيم لبعض الاشرار بالعيش حياة هانئة بينما يتعذب في الدنيا بعض عباد الله المخلصين ?" حاول بعض علماء التلمود اليهود اعطاء دور ما لعلم التنجيم و الابراج في تحديد مصير الانسان ,وذلك أضافة للعناية الالهية .فقد قالوا بأن رزق الانسان و عمره و ذريته تحددهم الابراج الفلكية , ولكن الدعاء و التقوي يمكنهما أن يساعدا الانسان في تغيير مصيره.
في القرون الوسطي تأثر اللاهوتيين اليهود بفكر الأشعرية و المعتزلة المسلمين في نظرتهم لمسألة الجبر والاختيار . ف ابنر البوقسي تأثر بالمدرسة الاشعرية , بينما تأثر موسي بن ميمون القرطبي , الذي يفتخر به اليهود المعاصرين كثيرا بفكر المعتزلة في قولهم بأن الانسان يخلق أفعاله . ولم يكن هذا التأثر غريبا فموسي
ابن ميمون درس بجامعة القرويين بفأس ويظهر تأثره بالفكر الاعتزالي و بفلسفة ابن رشد بوضوح في كتابه اللاهوتي الفلسفي "دلالة الحائرين".
كما كان حال أحبار اليهود كذلك أضحي الحال باللاهوتيين المسيحين في سعيهم الحثيث لفهم ماهية القضاء و القدر , أضف الي ذلك بأن المسيحيين كان عليهم حملا أثقل من حمل اليهود الذين كان عليهم فقط التوفيق بين المشيئة الالهية و العدل الالهي . ولكن كتابات القديس أوغستين حول مبدأ "الخطيئة الاصلية " و التي تم تضمينها لاحقا في المعقتد المسيحي صعبت الآمر كثير علي فقهاء المسيحية .
فبموجب مبدأ "الخطيئة الاصلية": فكل مولود لايولد علي الفطرة بل يولد محملا بأثقال الخطيئة الاصلية التي ارتكبها أبونا آدم . وللخلاص من تلك الخطيئة لابد له من القبول بالمسيح كمخلص (و ذلك دون الخوض في ماهية طبيعة المسيح).
هل البشر , كل البشر , لهم الخيار المطلق في قبول الخلاص ( وماينتج عنه من نعيم أبدي)؟ أو رفضه للخلود في الجحم؟ اختلف اللاهوتين حول الاجابة علي هذا السؤال. وكان كل طرف يستدل علي رأيه ببعض أيات من الانجيل تدعم موقفه .
فمن قال بحرية الاختيار , من فقهاء المسيحيين, يستند علي آيات مثل لوقا13:34 "يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت أن اجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا " . و من قال بالجبرية المطلفة يستند علي آيات أخري مثل رومان 8:28 "ونحن نعلم ان كل الاشياء تعمل معا للخير للذين يحبون الله الذين هم مدعوون حسب قصده "
يؤمن بعض فقهاء المسيحية بما سمي ب "الجبرية المزدوجة" و رائدهم في هذه العقيدة هو القديس اوغستين و ملخص العقيدة هو أن هنالك بشر خلقهم الرب ليدخلوا الجحيم وآخرين تم خلقهم لينعموا بالسعادة الأبدية "الجنة" , وهم في اعتقادهم هذا يستندون علي بعض نصوص الانجيل مثل رومان 8:28 "ونحن نعلم ان كل الاشياء تعمل معا للخير للذين يحبون الله الذين هم مدعوون حسب قصده." و رومان ٨:٣٠ " والذين سبق فعيّنهم فهؤلاء دعاهم ايضا. والذين دعاهم فهؤلاء بررهم ايضا. والذين بررهم فهؤلاء مجدهم ايضا."
ثم هنالك ال بيلاجيانية وهم اصحاب مذهب الراهب بيلاجيوس (354 - 420 م) .لايؤمن أصحاب هذا المذهب بالجبرية المزدوجة ولايؤمنوا بالخطيئة الاصلية (وهي أن كل الجنس البشري ورث خطيئة آدم و معصيته للرب) بل يؤمنوا بأن الانسان حر في أختياره بين الخير و الشر . واجه ال بيلاجيانية معارضة شديدة من مختلف الطوائف المسيحية ,بل واعتبراهم ألكثيرون هراطقة . ولكن في العصور الوسطي تبني أحد أهم فقهاء المسيحية , توماس الاكويني التبشير بأن الانسان حر في أختياره .
لمن يتسأل: لم هذا الاختلاف الكبير في فهم النصوص المسيحية المقدسة؟ عليه معرفة أن الصعوبة تكمن في كون أن هنالك نصوصا من الكتاب المقدس تنسب الفعل للانسان ثم تعود في موقع آخر و تنسب نفس الفعل للرب .
فمثلا سفر التكوين عندما يتحدث عن قصة يوسف مع أخوته , تنسب بعض مقاطع سفر التكون لأخوة يوسف "بيعه كعبد في مصر" وفي موقع آخر ينسب نفس الفعل للرب "فَالْانَ لَيْسَ انْتُمْ ارْسَلْتُمُونِي الَى هُنَا بَلِ اللهُ. وَهُوَ قَدْ جَعَلَنِي ابا لِفِرْعَوْنَ وَسَيِّدا لِكُلِّ بَيْتِهِ وَمُتَسَلِّطا عَلَى كُلِّ ارْضِ مِصْرَ" (سفر التكوين 45: 8)
نفس الشيئ يتكرر في سفر أشعياء عند الحديث عن الغزو الآشوري لليهود ففعل القتل و التنكيل ينسب للاشوريين مرة ثم ينسب نفس الفعل للرب الخالق كعقاب أنزله علي اليهود.
كان السلف الصالح من المسلمين يتجنبون الخوض في مثل هذه الأمور و يؤمنون بالقدر خيره و شره بلا جدال , ولكن ماذا نفعل مع ديمقراطية المعرفة و أخا قوقل ! اللذين جعلا الكتابة في مثل هذه المواضيع فرض كفاية علي من أستطاع اليه سبيلا من المسلمين وذلك لدرء شبهة الجبرية عن الاسلام !
Comments