تأملات في النشأة ألأخري

 

 

تأملات في النشأة ألأخري!

"هنالك شيئين لامهرب منهما: الموت , والضرائب ."
مثل أمريكي



بقلم :حسين  عبدالجليل

 
 يخطئ من يظن أن الايمان بحياة بعد الموت هو اعتقاد يؤمنبه اتباع الديانات السماوية الثلاثة, فقط . فالحفريات الاثرية تدل علي ايمان قديم للأنسان بحياة بعد الموت . فحسب مااكتشف من من بقايا الانسان الاول فهناك مايدل علي ايمان قديم للانسان بوجود حياة أخري بعد الموت , و يدل علي ذلك اهتمام الانسان القديم , دون سائر الحيوانات ,بالعناية الشديدة في دفن موتاه , بل أن اصحاب بعض الحضارات القديمة كاهلنا الكوشيين و قدماء المصريين كانوا يدفنون بعض المعدات و الحيوانات الاليفة معالميت وذلك حتي تعينه في حياته القادمة , حسب أعتقادهم .


وحيث أن تلك الحياة الاخروية هي غيب فقد اختلف البشر منذ القدم في تصور كنهها مقارنة بالحياة الدنيا . و لعل اعمق الامثلة , غير الدينية , التي ورد فيها أننا معشر البشر في حياتنا الدنيا هذه لانري الاشياء علي حقيقتها و سنراها كما هي في حياتنا القادمة , قد ورد في الفصل السابع من كتاب الجمهورية لافلاطون وذلك في ماسمي ب Allegory of the Cave أمثولة /اسطورة الكهف . فذلك الفيلسوف الاغريقي المولود عام 427 قبل الميلاد يتخيل تجربة ذهنية في شكل قصة مفادها أننا لو تخيلنا أناسا يعيشون مقيدين في كهف منذ صغرهم بحيث لايستطيع اي منهم رؤية جسمه او جسد اي من رفاقه . و " ﻫﻨﺎﻙ ﻣﺎ ﻳﺸﺒﻪ ﺍﻟﻨﺎﻓﺬﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻄﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻧﻮﺭ ﻳﻨﺒﻌﺚ ﻣﻦ ﺷﻤﺲ ﻣﻘﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﻜﻬﻒ . ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻨﻮﺭ ﻭﻧﺎﻓﺬﺓ ﺍﻟﻜﻬﻒ ﻫﻨﺎﻙ ﻃﺮﻳﻖ ﻳﻤﺮ ﻣﻨﻪ ﺃﻧﺎﺱ - يعيشون خارج الكهف - وﻳﺤﻤﻠﻮﻥ ﺃﺷﻴﺎﺀ ﻋﺪﻳﺪﺓ ، ﻭﺣﻴﻨﻤﺎ ﺗﻀﺮﺏ ﺃﺷﻌﺔ ﺍﻟﻨﻮﺭ ﻓﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻷﺷﻴﺎﺀ ﺗﻨﻌﻜﺲ ﻇﻼﻟﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺠﺪﺍﺭ ﺍﻟﺪﺍﺧﻠﻲ ﻟﻠﻜﻬﻒ . ﻫﻜﺬﺍ ﻻ ﻳﺮﻯ ﺍﻟﺴﺠﻨﺎﺀ ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﻜﻬﻒ ﻣﻦ ﺍﻷﺷﻴﺎﺀ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺓ ﺧﺎﺭﺝ ﺍﻟﻜﻬﻒ ﺇﻻ ﻇﻼﻟﻬﺎ . " (الجزء بين " " منقول) وهم في كهفهم ذاك يظنون أن ظلال الاجساد المنعكسة علي جدار الكهف هي الاشياء الحقيقية , فطيلة حياتهم لم يعتادوا الا علي رؤية الظلال .

أفلاطون في أمثولة الكهف يقول لنا بأن العالم الحقيقي الاكثر جمالا و حيوية هو العالم خارج الكهف الذي لانستطيع تصوره علي حقيقته و نحن في كهفنا الدنيوي هذا . ذلك العالم الجميل حسب نظريه أفلاطون يرمز الي عالم المثل (بضم الميم) , وهو ذلك العالم الذي عشنا فيه قبل هبوطنا لعالم الجسد المادي . وهو العالم الذي سنعود اليه بعد مماتنا .افلاطون في نظريته الفلسفية يميز بين وجودين , أحداهما هو الوجود الزائف/العالم المنظور/عالم الأوهام و ألاخر هو الوجود الحقيقي/عالم المُثُل .

ولعل الامام علي , كرم الله وجهه, كان أبلغ تعبيرا من أفلاطون حينما قال في جملة مختصرة بليغة: "الناس نيام, إذا ماتوا انتبهوا"

القرآن الكريم ايضا يشير الي حالة اليقظة الحادة التي تعتري الانسان بعد مغادرته لهذه الدار الفانية وذلك في قوله تعالي في سورة ٌ ٌ ق "لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ " ومن المذهل أن كثير من الغربيين , الذين لم يسمعوا بهذه الآية الكريمة و الذين مروا بما اصبح يعرف مؤخرا ب "تجربة الأقتراب من الموت" Near Death Experience(NDE) يقوولون انهم في لحظات توقف قلوبهم وموتهم السريري المؤقت (قبل انعاشهم) كانوا في حالة وعي و يقظة تفوق حالة الوعي العادي بمراحل .

كمسلم أؤومن بكل ماجاء يالقرآن الكريم حول نعيم الجنة الحسي و عذاب النار الحسي الا أنه يمكن الاستناد علي أيات القرآن نفسها لنفهم أن ماجاء فيها عن الحياة ألآخرة ماهو الا مقاربات لمناظر , حالات , نعيم , و جحيم يعجز عقلنا القاصر علي رسم صورة ذهنية حقيقة لها , لذا نجد المولي عز و جل يبتدر الاية 15 من سورة محمد التي تصف نعيم الجنة بقوله تعالي "مثل الجنة " أي أن الاية تضرب مثلا لمقاربة النعيم الحقيقي بنعيم دنيوي نعرفه . فعقلنا يرسم صورة ذهنية لاي غيب بما يعرفه مما يشبهه في عالم الشهادة , فماذا لو لم يكن لذلك الغيب نظيرا في عالم الشهادة؟

لتقريب قولي أعلاه فلو افترضنا جدلا وجود كائنات عاقلة ثنائية الابعاد , اي لها طول و عرض فقط (لا أرتفاع/عمق/بعد ثالث) لها , فكيف يمكنك ايها الانسان أن تصف لهذه الكائنات (التي لانعرف في عالمها الا النقاط و الخطوط المتقاطعه) كيف تصف لها و ظيفة اي آداة ثلاثية الابعاد مثل التلفزيون او الكمبيوتر ؟ بالطبع لن تستطيع ذلك , فليس في عالم تلك الكائنات اي شيء يقرب الصورة الذهنية للتلفزيون او الكمبيوتر لها .

الدكتور مصطفي محمود عبر عن هذا المأزق بقوله مامعناه , لنفترض جدلا أن طفلك الذي عمره ثلاث سنوات طلب منك أن تصف له بدقة اللذة الجنسية, ماهي ؟ , فكيف ستصفها له بطريقة يستوعبها عقله ؟ قال انك ستقول له أنها شيء لذيذ مثل الشوكلاتة ! أنت هنا قربت له المعني بشيء يفهمه ولكن شتان مابين اللذة الجنسية و لذة أكل الشكولاته . ولله المثل الأعلي .

القرآن الكريم , في عدة آيات , يصف الجنة و النار بأن كل منهما هي "نُزُلا" لأهلها و ذلك مثلا في قوله تعالي "إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا  " وقوله "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا " . و النُزُل حسب معاجم اللغة العربية هو "المنزل , مكان الاقامة " حتي أن الفندق يسمي نزلا في بعض البلدان العربية . منازل و فنادق اليوم توجد بها (أو تنعدم بها) خدمات و تقنيات حسب مستواها , فلنتدبر القرآن حتي نري نوعا واحدا من الخدمات موجود لأجابة سؤال فضولي يرواد بعض أهل الجنة , بينما تنعدم ذات الخدمة لأهل النار الذين يسألون نفس السؤال الفضولي .

فالاية الكريمة "  قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول أئنك لمن المصدقين أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون قال هل أنتم مطلعون فاطلع فرآه في سواء الجحيم قال تالله إن كدت لتردين" تحكي عن رغبة أحد اصحاب الجنة لمعرفة مصير أحد أصدقائه ممن كان ينكر البعث . “ قال هل أنتم مطلعون فاطلع فرآه في سواء الجحيم" معناه أن ساكن الجنة كان يعلم بوجود تقنية تسمح له و لرفقائه في الجنة برؤية و التخاطب مع من يريدون من أهل النار " تالله إن كدت لتردين" . رغم بلايين البشر , من سكان النار من عهد سيدنا آدم لقيام الساعة , فساكن الجنة يستطيع اني شاء رؤية و مخاطبة من يشاء من معارفه الذين يسكنون الجحيم. لاأدري هل الآية الكريمة "وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ۚ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ" تشير الي محاولة استغلال الاصدقاء في النار لقناة التخاطب المؤقتة هذه التي فتحها اصدقائهم في الجنة لمعرفة مصيرهم و ذلك بغرض التسول منهم لبعض طيبات الجنة ؟

“ وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ ". هنا بعض أهل النار يفتقدون بعض معارفهم ممن كانوا يظنون أنهم سيدخلون النار مثلهم . و لكن في النار (عكس ماهو الحال في الجنة) لاتوجد أي خدمة أو تقنية تمكنهم من الاطلاع , البحث و معرفة مصير , أو التخاطب مع من أفتقدوهم , فهذا النُزُل الذي يقيمون به نُزُلا تعيسا لاتوجد به مابالجنة من وسائل تواصل متطورة .

الكاتب المصري دكتور مصطفي محمود هو من أكثر الكتاب الذين استفدت من القراءة لهم لاعيد صياغة الصورة الذهنية القاصرة لديّ للجنة و النار . فهو يقول في كتاباته بأننا نخطئ عندما نتصور نار جهنم كانها فرن كبير . اضافة لكون طبيعة اجسادنا في النشأة الأخري ستختلف عن طبيعتها حاليا مما سيمكن اهل النار من الحديث , المجادلة, لعن بعضهم بعضا , والاكل (من شجرة الزقوم) و الشرب (من ماء الحميم) . وهو يستنتج من أيات القرآن الكريم أن طبيعة نار جهنم ايضا تختلف عن طبيعة نار الدنيا . فلا أحد يستطيع الحديث او الاكل او الشرب وهو ملقي في نار الدنيا .

لفت نظري وصف المولي عز وجل لتلك النار بأنها " ٱلَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى ٱلْأَفْـِٔدَةِ" , بمعني أنها نار ذكية , تعذب كل كافر بحسب ماران علي فؤاده مما كسب . بل أن نفس المعني يتكرر في الاية 38 من سورة الأعراف " قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِي النَّارِ ۖ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ۖ حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ ۖ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ" . فالمعني بقوله تعالي "لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ" هو أن لكل فرد من اهل النار عذاب مفصل تماما علي ذنوبه يختلف عن عذاب أقرانه الذين معه .

أيضا يقول الدكتور مصطفي محمود مامعناه بأن تخيلنا للجنة كحديقة كبيرة هو تصور قاصر .وهو يستدل بقوله تعالي ( إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ) و (نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا) بان الجنة ليست فقط مكان للأكل و الشرب و الاسترخاء و ممارسة الجنس بل فيها مجال للشغل و الترقي لدرجات ارفع من الجنان وذلك لقولهم ( رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا) .

أيضا مما لفت انتباهي قوله تعالي بعد وصفه لنعيم الجنة و مساكنها الطيبة قوله (وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) أي أن متعة الرضوان الأكبر من الله ستفوق كل متع الجنة الحسية . ولاننسي حديث ابي هريرة رضي الله عنه , عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهذا الحديث يطابق معناه قوله تعالي : "فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" . ولعل ابن عباس رضي الله عنهما قد عبر علي عجزنا عن تصور نعيم الجنة تعبيرا بليغا بقوله "ليس في الجنَّة شيءٌ ممَّا في الدُّنيا إلا الأسماء  "

أسأل الله أن يجعلني و أياكم من ساكني جنانه .

Comments

Popular posts from this blog

كيف أفهمني هرم أبراهام ماسلو للأحتياجات الانسانية سورة قريش!

فهم مغاير لمعني كلمة "هيت" في الآية الكريمة: "و قالت هيت لك" .. بقلم: حسين عبدالجليل